مقالات
أخر الأخبار

سدادة البانيو !  

د . مظفر قاسم حسين

٥ شباط / فبراير ٢٠١٤

 

كنت أحد المحظوظين الذين زاروا مستشفى للامراض العقلية والنفسية ببغداد وذلك في التسعينيات

بعد دعوة وُجهت لي من أحد المتخصصين بعلم النفس حيث عرض عليّ هذه الفرصة للاطلاع على عالم آخر، وأتذكر أنني كنت حينها طالبا جامعيا ، وفعلا ذهبت الى ذلك العالم ورأيت بنفسي مشاهد لا ولن تُنسى أبدا لما لها من تأثير على النفس والعاطفة ، وبعد أن جلس المتخصصون ليتباحثوا في شؤون المستشفى ومناقشة بعض الحالات المستعصية والجديدة وطرحها على المتخصصين الزائرين ، إستأذنت منهم في أخذ جولة بسيطة للتعرف على أروقة المستشفى ، فابتسم مدير المستشفى قائلا : تجوّل عزيزي ، ولكن أخشى عليك أن يعجبك المكان وتطلب المكوث فيه.

فضحكت والحاضرون كذلك وشكرت المدير على سماحه لي بفرصة التجوّل.

كانت أولى خطواتي في الممّر الذي تطل عليه غرفة المدير وإذا بشخص يجلس على أحد كراسي المستشفى نظر إليّ من بعيد وأنا أتوجه نحوه فابتسم لي عن بعد وبادرته بذات الابتسامه عن بعد أيضا وأنتظرت أن يبعد بصره عني كي أبعد عيني عنه فليس من اللائق أن أزيح بصري عن شخص ينظر الي بابتسامة رقيقة ، لقد تجمدت عيناه عليّ الى أن وصلت قريبا جدا منه فدار حوار بيني وبينه باللهجة العراقية حيث بادرني بالسؤال: من أين أنت؟

فقلت له: من خارج هذا المكان الذي أنت تعيش فيه.

فقال: أها ! الله يكون بعونك !

فقلت له: لماذا ؟

فقال: يا أخي في الخارج كلها مشاكل وهموم شوف هنا شلون مرتاحين وهادئين …. هسه معلينا قل لي أنت تحب المواويل؟!

قلت له: نعم

فقال : تحب أسمعك ؟

قلت له : ياريت !

وهنا أنطلق صاحبي في الموال ولم أكن أتوقع أنه يمتلك صوتا جميلا ورائعا كهذا الصوت فقد أدمعت عيناي حينما كنت أستمع لصوته الحنون الشجيّ ولو أن صاحبي ذاك إشترك في برنامج ”  The voice  “  لحاز على اللقب بكل جدارة.

ودّعت صاحب الصوت الشجي وأكملت جولتي وإذا بفتاة ذات وجه قمري وملامح جميلة جدا وعينين عسليتين وشعر أشقر طويل نوعا ما جالسة وهي ترسم فسألت أحد مرافقيها عن سبب وجودها في هذا المستشفى فأجاب لقد خانها حبيبها مع أختها ! فقلت له بل خانها كلٌّ من حبيبها وأختها معا ً فأصبحت بين خيانتين فأيّ عقل يتحمل ما جرى وأي جسد يتحمل هكذا طعنات!

إقتربت منها فنظرت إليّ مبتسمة ومرحّبة بي فجلست بقربها كي أرى ماذا ترسم فسألتها عن اللوحة فقالت : هذا العراق !

فقلت لها : ولماذا هذا اللون أسود والغربان تحوم فوقه .

فقالت باللهجة العراقية مبتسمة: هذوله الحرامية والخونة !

فقلت ربما شبّهت حبيبها بالوطن وأختها بالغربان التي سرقت حبيبها منها وخانتها.

عدت الى غرفة المدير ،حيث كنت، وانضممت الى حديثهم وإذا بأحد الاطباء الحاضرين يقول : جاءني أخي ذات يوم ليقلني الى البيت وسألني كيف تعرفون أن هذا الشخص فعلا مريض هل تقومون باختبارات معينة مثلا ؟ فقلت له “والكلام مازال للطبيب” نعم أخي .. نملأ له بانيو الحمّام ونضع أمامه ملعقة طعام وكوبا وسطلا ونطلب منه أن يفرغ البانيو … وهنا قاطعني أخي قائلا : أكيد الشخص السليم سيستخدم السطل لتفريغ البانيو وليس الملعقة أو الكوب … فقلت له : لا يا أخي …

فاستغرب أخي قائلا وكيف؟!!  فقلت له : الشخص السليم يرفع سدادة البانيو !!!

أطلقنا ضحكات قوية جدا لن أنساها وحينما أتذكر زياراتي المتعددة للعراق بعد 2003 تقفز أمامي عبارات ومواقف تلك الزيارة للمستشفى … منها عبارة صاحب الصوت الشجّي عندما عرف أنني من خارج المستشفى فقال الله يكون بعونك !! وأتذكر صورة العراق السوداء والقاتمة التي رسمتها ذات العينين العسليتين حينما وضعت الغربان وقالت إنهم السّراق والخونة … هل يعقل أن أولئك كانوا من المتنبئين ؟ كانوا يرون العراق كما نراه نحن اليوم حيث يشتكي العراقيون من الاوضاع الامنية والخدمية والبطالة وكذلك من السارقين والفاسدين  بحيث فاض العراق بهم وبالمشكلات على حد تعبير عراقيين كثيرين ، ولكن يبقى السؤال الذي مازال يحيّرني حتى اللحظة كي تفك شفرة تلك الزيارة بأكملها وهو … من سيرفع سدادة البانيو ؟!!

إعلانات

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى